المشهد الأول :
نشرت احدي الصحف الأجنبية تحقيقا لمراسلها في القاهرة يتحدث فيه عما شاهده من الجموع المحتشدة بمختلف أعمارها أمام مشهد الحريق وهو يلتهم واحدا من المباني الأثرية العريقة والمقار المهمة في مصر.
وترك مراسل الصحيفة الأجنبية الحديث عن الحريق وتناول ظاهرة اللامبالاة وعدم الاكتراث التي ظهر عليها المصريون المحتشدون وقد رفع كل منهم بجهازه المحمول ليصور ألسنة اللهب وهي تأتي علي أبنية مجلس الشورى وتتصاعد ألسنتها إلي سماء قلب العاصمة علي نحو مخيف دون أن يتحرك أحد للمساعدة في نجدة المباني أو المساعدة في الإطفاء أو حتي ظهور علامات القلق أو الخوف أو الحزن علي وجوه المحتشدين وقد خلت تعبيراتهم من أي آثار للشعور بالأسف علي هذه المباني الأثرية التي يقطنها بعض صانعي القرار في بلدهم.
بل مضي المراسل الأجنبي في رصد هذه الظاهرة علي الفور بإجراء مقابلات مع البعض من الشباب الواقف ليتجرأ ويسألهم عما لو تعرضت بلدهم لخطر خارجي فماذا ستكون مشاعرهم؟؟؟ وكانت إجاباتهم قنابل مثيرة للجدل فقد كانت هناك أرائهم وتعليقاتهم محبطة يائسة شامتة رافعة شعار "وأنا مالي ".
الغريب في الأمر الذي أكده المراسل الأجنبي هو حالة عدم الاكتراث ومشاهد الأذرع المرفوعة بأجهزة المحمول تصور المشهد المأساوي للحريق.
المشهد الثاني:
مواقع الانترنت تتداول الخبر وتعليقات الزوار تنهمر بغزارة والمفردات متشابهة تدور في فلك الشماتة "أحسن - يا خسارة آه لو كان النواب جوه المجلس - دي مش بلدنا - إن شاء الله تولع".
وانهال الزوار بالنقد الغاضب وصبوا اللعنات والتعليقات النارية تجاه الحكومة ورموز البلد وهو ما انتبه إليه الدكتور زكريا عزمي ودعا في اجتماع لجنة الدفاع والأمن القومي بمجلس الشعب الأخير ضرورة دراسة أسباب الشماتة التي ظهرت علي الكثيرين من أفراد الشعب المصري عندما اندلع حريق التاسع عشر من الشهر الماضي.
المشهد الثالث:
أيام قليلة ويسقط احد أقطاب الاقتصاد المصري متهما في قضية مقتل مطربة لبنانية وانكشفت الأسرار وخاصة لغة المال والأرقام التي قدرت بالملايين وقام بإنفاقها على المطربة المغرورة للحصول علي رضاها آو علي رأسها.
وتعود لغة الشماتة من جديد خاصة وان الاسم المتورط له ثقله السياسي فهو ليس رجل أعمالا عاديا بل قطب سياسي من العيار الثقيل وخاصة في لجنة السياسات بالحزب الحاكم لذا وجدها الكثيرون فرصة للنيل من هذا الاسم وما يمثله وحملوهم مسئولية ما أسموه ضياع البلد.
ولكن الخطورة ليست في سقوط هشام طلعت مصطفى أو غيره فمصيره بيد القضاء كي يلقي كلمته بل أن الخطورة أن البلد في خطر بسبب ظاهرة الشماتة التي تعد ترجمة لقضية الانتماء الوطني وما آل إليه حال هذا الانتماء من جانب الغالبية العريضة من الناس والإحساس بالغربة التي يستشعرها الكثيرون عملا بمقولة "البلد مش بتاعنا".
شماتة أولاد البلد
الحقيقة التي أصبح يلاحظها الغريب قبل القريب حتي غير المصريين أن الشماتة أصبحت هي الحاكم بأمره وان شجاعة ابن البلد تحولت إلي شماتة أولاد البلد يعد أن الأولى استثناءا و" أحسن " هي القاعدة..
وبالرغم من الاعتراف الحكومي بتفشي وشيوع الظاهرة إلا انه للأسف الشديد تعالت بعض الأصوات الحكومية غير معترفة بوجودها تحت شعار تقليدي حفظناه " قلة قليلة مندسة " حيث القي لمجلس الأعلى للصحافة برئاسة صفوت الشريف رئيس المجلس تقرير الممارسة الصحفية واتهم قيام بعض الصحف باستغلال كارثة حريق مجلسي الشعب والشورى كمادة للتشهير والشماتة والتحريض خلاف الحقيقة التي كشفت عنه آلاف البرقيات التي تلقاها رئيسا مجلسي الشعب والشورى والتي تعكس مشاعر المواطنين الحقيقية والتعبير عن حزنهم وتضامنهم.
وحول ردود الأفعال لدي مواطنين قيل إنهم شمتوا في الحادث وهو ما تناولته بعض الصحف والقنوات، قال الشريف: "غير صحيح علي
الإطلاق لأن الشعب المصري بطبعه طيب ويتحلي بالإيمان خاصة وقت الأزمات تجده لا يفرق بين الظالم والمظلوم، ولم تقل صدمته في حريق مجلسه النيابي عن صدمتنا جميعا، ولكن هناك بعض الفضائيات تروج لعكس ذلك، وما أسهل إجراء محادثات تليفونية مخططة في برامج فضائية تبحث عن الإثارة دون النظر للمضمون".
وبعيدا عن شماعة الفضائيات وصحف الإثارة التي اتهمها رئيس مجلس الشورى رغم أن كافة الصحف بكافة ألوانها رصدت تلك الظاهرة وحذرت منها وهو ما يعني أن بداية حل أي مشكلة هو الإيمان بوجودها وهو ما لم يتحقق حتي ألان رغم أن القضية اخطر مما نتصور فهي تمس الانتماء الوطني وبالتالي الأمن القومي للبلاد بما يستلزم منا جميعا مجابهتها وعلاج أسبابها قبل استفحالها دون إغفالها والارتكان إلي وضع رءوسنا في الرمال لدرء مخاطرها.
والحقيقة التي أصبحت واضحة وضوح الشمس أن ظاهرة الشماتة في الحكومة وأجهزتها التنفيذية وكل ما ينتمي إليها أو صناع القرار بوجه عام - وإن كانت غير قاصرة علي بلد دون آخر تقريبا - فإنها لدينا ليست وليدة فترة قصيرة إلا أنها تنمو وتتعاظم بيننا علي نحو يدعونا إلي القلق والخوف من أثارها.
أراء الخبراء والمتخصصين
خبراء الاجتماع يؤكدون أن ما أظهره البعض من شماتة أو سعادة تجاه المصائب ليس سلوكا طبيعيا لان المصريون لا يشمتون في أعدائهم فكيف يشمتون في بلدهم؟
وعلي الرغم من وجود أسباب فعلية تدعو للغضب من أداء الحكومة مثل ارتفاع الأسعار وزيادة أعداد البطالة وارتفاع نسبة المصريين الذين يعيشون تحت خط الفقر تلك الأسباب بالرغم من انعكاساتها السلبية علي المواطنين إلا إنها ليست مبررا للشماتة والسعادة لأنها سلوك انفعالي لا يستفيد احد من ورائه وإذا كان تنفيسا عن الكبت أو الكره الذي سيطر علي البعض من الوضع الذي صارت عليه مصر إلا انه ليس حلا يداوي أوجاعنا.
ويشير الخبراء إلى ضرورة أن تسعي الحكومة جاهدة إلي حل المشاكل المجتمعية من اجل إعادة الثقة بينها وبين المواطنون والقضاء تماما علي مشاعر الحقد والكراهية و(النفسنة) خاصة بعد انقراض الطبقة الوسطي وانقسام المجتمع إلي طبقتين قلة تملك كل شئ وأغلبية لا تملك شئ وهذه هي الكارثة التي يجب الانتباه إليها وحلها قبل فوات الأوان بعد أن وصلت الأمور إلى درجة الغليان وإذا لم يتم تدارك الأمر فالانفجار قادم لا محالة.
رأي الدين في ظاهرة الشماتة
علماء الدين يؤكدون أن الشماتة محرمة شرعا حتي ولو كانت في الأعداء فقد روي عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أن من وصاياه " ترك الشماتة للأعداء " وهذه الوصية جاءت من رسول الله صلي الله عليه وسلم للتعامل مع المخالفين المناوئين للمسلمين فكيف بأهل الوطن الواحد أن يشمتوا في كارثة أو مصيبة أو إهدار مال عام وهو ما يشير إلى أن نفوس هؤلاء الشامتين بها شطط فبدلا من التضرع واللجوء إلي الله للرفق بالقضاء والقدر لا أن يشمتوا في وطنهم.
الملف لا يزال مفتوحا .. فمسلسل الكوارث مستمر وبنجاح ساحق وظاهرة الشماتة تتوغل وتنتشر وتستمر .. والوطنية والولاء أصبحت من الماضي .. وقلوب المصريين موجوعة تبحث عن طبيب مداوي.
ولكن يا تري أين العيب ؟؟ هل فينا أم في الحكومة أم في زمننا ؟ سؤال يبحث عن إجابة وإذا نجحنا في التوصل إليها لعرفنا إجابة سؤالنا لماذا يشمت المصريون في مصائب بلادهم ؟!