[size=25]أنا لست أنا!!!
غرفة في آخر الرواق الطويل، كانت تتصدر ذلك الرواق الهادئ...
غرفة منفردة ، ليس يجاورها أي غرفة أخرى ..
بابها الأبيض الكبير ، ومقبضها الذهبي ، يدلاّن على الهدوء التام والصمت المجبر في ذلك المكان ...
يتوسط الغرفة سرير بغطاء أبيض ، ووسائد بيضاء منقوش على طرفها بعض الكتابات ، لا ادري لمَ كُتبت؟!!
نافذة كبيرة تطل على الحديقة في الأسفل، وكرسي خشبي يقابلها ، بجانبه طاولة صغيرة ، وضع على لوحها الزجاجي كأس ماء نصفه ممتلئ وكتاب صغير ...
أعرف هذا الكتاب .. كان يرافقني أينما ذهبت ، أقرؤه كثيرا ، وأحبه كثيرا ..
نظرت الى هذا الجسد الملقى على الكرسي ، كان آخر مايمكن أن يلتفت اليه نظري في تلك الغرفة ..
اقتربت اليها ، كانت واجمة ، تنظر الى الحديقة دون أن تنبس ببنت شفة..
كان شعرها الكثيف يغطي وجهها الجميل ..
اقتربت منها أكثر ، حركت يدي يمنة ويسرة لألفت انتباهها ..
كان نظرها معلقا- لا أدري بماذا – لم تلتفت الي البتّه ...
حزنت لأجلها ، تنبّهت الى صوت طرق على الباب ..
فُتح ودخلت منه فتاة بغاية الرقة والأنوثة كانت تردتدي معطفا أبيضا ، وتنورة سوداء قصيرة ، تنمّ عن ذوق رفيق ...
اقتربت من تلك الجثة الملقاة على الكرسي الخشبي ..
همست في أذنها ، تحركت ببطئ شديد دون أن تغير تلك النظرة الواجمة التي كانت عليها...
مشينا نحن الثلاثة في الرواق الطويل ، حتى وصلنا آخره ..
انحرفت بنا الفتاة ـ ذات المعطف الأبيض ـ يمينا ، وفتحت باباً أبيضا آخر ، علّقت عليه لوحة خشبية..
لم أنتبه مالذي كتب على تلك اللوحة ، كل مايهمّني هو ما سيقال في تلك الغرفة ...
دخلنا ،وتركتنا الفتاة ذا المعطف الأبيض ..
كانت غرفة مرتبة بشكل ملفت للنظر ..
طاولة كبيرة عليها عدد لا بأس به من الملفات ..
يجلس خلف الطاولة رجل يلبس بزّة رسمية .. يحرّك نظارة سميكة بإحدى يديه ، وفي الأخرى يمسك أوراقا كثيرة ، كان يقرؤها عندما دخلنا ...
رفع رأسه ليتأكد من وجودنا ، ثم أكمل قراءة أوراقة...
رفع رأسه مرة أخرى من بين أوراقه ، نظر اليها وقال بلهجة مهذّبة جدا :
((بتول .. تفضّلي بالجلوس ..))
مهلا ....
ماذا قلت؟؟؟!!!
أنا بتول !!
لماذا تشير اليها هي؟؟
أبعدت شعرها الطويل عن وجهها وابتسمت قبل أن تجلس في المكان الذي أُشير عليها للجلوس فيه ..
اقتربت منها ..
ماذا ؟؟!!
نعم أعرفها ...
انها ... انها أنا!!!
مالذي حدث لي ؟؟!!
اقربت من ذلك الرجل ذو البزّة السوداء ..
كان قد علّق على الطرف الأيسر من أعلى بزّته بطاقة صغيرة كُتب عليها
(( د. محمود !!! ))
((من انت؟؟ )) ، كنت أصرخ به ، وأنا في غاية القلق ..
لم يلتفت الي ، وكأنه لم يكن يسمعني ..
اكتفى بأن يقف ويدور حولي ، لا ... بل حولها هي ..
تلك التي تشبهني تماما ...
كان يقول لها كلاما لم أكن أصغي له ..
كنت أرفع صوتي أكثر وأسأل بحدّة :
((مالذي يحدث ؟؟))
كنت قلقة جدا ، أرتجف خوفا..
حاولت أن أبدو قوية .. أن أستهلك مابقي في بتول من قوة وعزم...
وقعت أخيرا على ركبتيّ ، وصرخت باكية بشدّة ..
(( أرجوكم مالذي يحدث ؟؟!! ))
بدأت شبيهتي بالتكلم ، كانت تشبهني تماما ، غير أنني كنت أبكي في اللحظة التي كانت تبتسم هي فيها ..
قالت:
((لقد قلت لك يادكتور ))
كانت كلماتها موزونة جدا ، ولكنها لم تكمل ...
اقتربت منها :
((مالذي قلته للدكتور محمود؟؟!! ))
هزّ رأسه موافقا وأجابها :
(( أعلم يابتول ..))
ثم أضاف كعادته :
((اهدئي .. اهدئي ))
لم تكن كلماته لتغير أيّ شيء في بتول تلك ..
كانت هادئة مستسلمة على غير عادتها ..
كانت ....
لا أدري ، لم تكن أنا ...
كانت تشبهني كثيرا ..
الا أنها كانت تبتسم بينما كنت أبكي ...
لماذا تناقضني؟؟
كانت هادئة بينما كنت أثور غضبا ..
كانت لا تتكلم ، وتنظر بوجوم في وجه الدكتور محمود ..
وكنت بدوري أصرخ بشدّة ، وأجول بنظري في الغرفة بسرعة ..
أحاول أن أدرك مالذي يحدث !!!
أدركت أخيرا مالذي حدث،،
وقفت في وسط الغرفة ، وصرت أدور على نفسي وأضحك بشدّة ..
وبدأت بتول تبكي ، بعدما كانت تبتسم ، نادى الطبيب :
((نور ... نور .. تعالي وخذيها الى غرفتها ...))
كانت نور هي الوحيدة التي تفهم على بتول دون أن تتكلم ..
نظرت نور الى الدكتور وقالت:
(( لن يفهمها أحد مثلي .. فأنا أعرف بتول القديمة ، وأعرفها الآن..))
كانت بتول تبكي ، وكنت بدوري أضحك بشدة لدرجة البكاء !!
خرجت بتول ـ او لنقل خرجت أنا بجسدي الآخر ـ من الغرفة..
اقتربت من مكتب الطبيب ، ضربت بيدي على الطاولة ...
(( أيعجبك هذا يادكتور ... لقد قالت لك ))
لم يلتفت اليّ حتى ، ولم يكن ليراني ، فأنا بتول القديمة ، وهو لم يكن يعرف بتول القديمة من قبل ..
أشعل سيجارته وبدأ يمسح على ذقنه ..
(( لقد كانت صديقتي .. كانت أختا تشكو لي كل همومها ))
ابتعدت عنه ، وقفت عند باب غرفته ، اغرورقت عيناي بالدموع..
أدرت ظهري ، وأسرعت باتجاه غرفتي ..
كانت الممرضة قد اجلست بتول تلك على نفس الكرسي الخشبي الذي كنت أجلس عليه من قبل ، وأمامي نفس كأس الماء وذلك الكتاب الذي كنت أعشقه ((هكذا علّمتني الحياة ))
اقتربت من بتول ، نظرت اليها ، كانت بالكاد تنظر الي ، وكأنها لم تعد تذكر بتول القديمة ..
قالت لي :
(( أشتاق اليك يابتول ، أشتاق للرجوع صغيرة ، أثرثر كثيرا ، أضحك من قلبي ، وعندما أبكي ...
لا ينتظرني الأصدقاء عادة لأبكي ..
بتول .. أشتاق لتلك الأحلام الغبية التافهه التي كنتُ احلم بها ، أشتاق لبتول الصغيرة ، التي كانت تقف الطاولة السوداء وتقول :
الفائزة بجائزة أفضل رواية على مستوى العالم .. بتول ..))
نظرت اليها وقلت :
(( لا أدري مالذي سأقوله لك بتول ، لا ادري لمَ وضعوكِ هنا ؟؟))
التفتّ باتجاه الباب ، كان جزء منه قد فُتح ، نظرت الى الخارج ..
أخذت نفسا عميقا ، وركضت في الرواق ...
نزلت الدرجات على عجل ، فتحت الباب الرئيسي ..
خرجت بسرعة ..
كنت أبكي تنفست الصّعداء ، التفت الى الوراء لأقرأ يافطة كبيرة علقت فوق باب المبنى
(( نُزُلٌ لمن مات وهو حي !!!! ))