الحمد لله الذى أذل بالموت رقاب الجبابرة، الحمد لله الذى أنهى بالموت آمال القياصرة، فنقلهم بالموت من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الجوارى والنساء والغلمان إلى مقاساة الهرام والديدان، ومن التنعم فى ألوان الطعام والشراب إلى التمرغ فى ألوان الوحل والتراب.
أحمدك يا رب واستعينك وأستهديك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك جل ثناؤك وعظم جاهك ولا إله غيرك .
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ينادى يوم القيامة بعد فناء خلقه ويقول : أنا الملك، لمن الملك اليوم ثم يجيب على ذاته سبحانه : لله الواحد القهار سبحانه سبحانه ذو العزة والجبروت ، سبحان ذوى الملك والملكوت ، سبحان من كتب الفناء على الخلائق ولا يموت .
وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمد عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله ، أدى الامانة وبلغ الرسالة ونصح للأمة ، فكشف الله به الغمة ، وجاهد فى الله حق جهاده حتى أتاه اليقين ، فاللهم أجزه عنا خير ما جزيت به نبيا عن أمته ورسولا عن دعوته ورسالته .
رفع الله له ذكره ، وشرح الله له صدره ، وضع الله عنه وزره وزكاه الله جل وعلا فى كل شئ ، زكاه فى عقله فقال سبحانه : ] مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [ [النجم:2]
زكاه وفى بصره قال سبحانه : ]مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [ [النجم:17]وزكاه فى صدره فقال سبحانه :]أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَك[ [الشرح:1]
وزكاه فى ذكره فقال سبحانه : ]وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [ [االشرح:4]وزكاه فى طهره فقال سبحانه : ]وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ[ [الشرح:2]وزكاه فى علمه فقال سبحانه : ]وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى % إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى[ [النجم:3،4]وزكاه فى حلمه فقال سبحانه وتعالى : ] بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ[ [التوبة:128] وزكاه كله فقال سبحانه:]وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ[ [القلم:4]
وبعد كل هذا جعل الله جل وعلا حبيبه إمام الأنبياء وإمام الأصفياء وإمام الأتقياء وخاتم الأنبياء ووهبه الحوض المورود وأعطاه اللواء المعقود ، وبعد ذلك كله قال له :
]إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ[ [الزمر :30]
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه وعلى كل من اقتفى أثره ، وأهتدى بهديه وأستن بسنته إلى يوم الدين .
أما بعد :
فيا أيها الأحبة الكرام مع اللقاء الثالث والعشرين ما زلنا مع آيات سورة مريم، وإذا كنا سنواصل الحديث مع أول جمعة من شهر رمضان، إن كنا ستواصل الحديث فى تفسير آيات القرآن الكريم فلسنا ممن يجافى هذا الشهر العظيم ، وإلا فإن كان كذلك ، فإن شهر رمضان هو شهر القرآن لقول الله وجل وعلا : ] شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ[ [البقرة:185] فتعالوا بنا لنواصل المسيرة مع القرآن الكريم، فما أجمل أن تكون اللحظات التى نقضيها مع كتاب الله جل وعلا، مع هذا الذكر الحكيم ، ومع هذا النور المبين، ومع هذا الصراط المستقيم، مع مأدبة الله جل وعلا مع القرآن الكريم ، ولقد أنتهينا فى اللقاء الماضى ونحن نصدد تفسيرنا لسورة مريم مع قول الله جل وعلا : ]وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ % إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ[ [مريم :39،40]
أحبتى فى الله أعيرونى القلوب والأسماع لنعيش مع هذه الأيات والكلمات الطيبات النيرات المباركات ، هذا هو الإنذار العام لجميع الخلائق على ظهر هذه الأرض من الله جل وعلا لحبيبه المصطفى محمد r ]وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ[
والإنذار فى اللغة : هو الإعلام المقترن بالتهديد والوعيد ، هذا هو الإنذار إعلام مقترن بالتهديد والوعيد . والحسرة فى اللغة هى أشد الندم والتلهف على الشئ الذى فات ولا يمكن تداركه ، الإنذار إعلام مقترن بالتهديد والوعيد والحسرة هى أشد الندم والتلهف على الشئ الذى فات ولا يمكن تداركه، يقول الله جل وعلا ]وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ[ إنه فى يوم القيامة، يا عباد الله إنه يوم القيامة إنه يوم الحسرة والندامة ، إنه يوم الحاقة ، أنه يوم القارعة ، إنه يوم الزلزلة ، إنه يوم الصيحة ، إنه يوم الصاخة ، إنه يوم الطامة الكبرى ،إنه الآزفة ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم : ]يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ[ [إبراهيم :48] ] يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا
كُنَّا فَاعِلِينَ[ [الأنبياء:104] ]يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً
مَهِيلاً[ [المزمل : 14] ]يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ[ [النحل : 111] ]يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً[ [آل عمران : 30] ] يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا[ [الأحزاب: 66] ] يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ % وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ [[آل عمران : 106 -107] ]وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً[[الفرقان : 27] ]وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً % وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً[[الكهف : 47 ، 48] ] وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً[[الكهف : 49] ] وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَة[
وأنذرهم يا محمد هذا اليوم الذى تنخلع القلوب لأهواله أنذر الغافلين ، وأنذر
المؤمنين أنذر الصادقين وأنذر العصاة المتألهين ، إنذارٌ عام لجميع الخلائق على
ظهر الأرض]وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ[[مريم : 39]
وموجبات الحسرة يوم القيامة كثيرة يا عباد الله فمنها ما رواه الإمام البخارى ومسلم من حديث أبى سعيد الخدرى - رضى الله عنه - أن النبى قال : " إذا دخل أهل الجنية الجنة وأهل النار النار ينادى عليهم : يا أهل الجنة فيشرأبون وينظرون يرفعون رؤوسهم تجاه هذا النداء بعدما استقروا فى الجنة ، ثم ينادى على أهل النار فيشرأبون وينظرون ثم يؤتى بالموت "
فى موضع بين الجنة والنار على صورة كبش أملح ، والكبش الأملح : هو الذى كثر بياضه أو هو الأبيض بياضا كاملاً يؤتى بالموت على هيئة كبش أملح فى موضع بين الجنة والنار ، وينادى على أهل الجنة وينادى على أهل النار ويقال لهم : هلى تعرفون هذا ؛ فيقولون : نعم نعرفه هذا هو الموت فيؤمر بذبحه فيذبح الموت ، فى صورة هذا الكبش الأملح ، فى موضع بين الجنة والنار ثم ينادى على أهل الجنة يقال : يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت() .. الله أكبر يا أهل