[center]قراءة نقديه لقصيدة(إني خيرتك فاختاااااري) لنزار قباني:
بقلم:
السيد محمد الخباز :
لقد قمت بتقسيم القصيدة إلى ثلاثة مقاطع بناء على الحالة الانفعالية في كل مقطع، وسأحاول دراسة كل مقطع على حدة بهدف اكتشاف المناطق الجمالية في كل مقطع وكذلك البقع التي تشوه تلك المقاطع، وهذه كما أعتقد هي إحدى وظائف الناقد الأدبي، أما بالنسبة للحكم على القصيدة هل هي جيدة أم لا فسأترك ذلك للقارئ الكريم، راجين من الله التوفيق والسداد.
إني خيرتكِ.. فاختاري
ما بين الموت على صدري
أو فوق دفاتر أشعاري
اختاري الحب.. أو اللاحب
فجبن ألا تختاري
لا توجد منطقه وسطى
ما بين الجنة والنار
ارمي أوراقكِ كاملة وسأرضى عن أي قرار
انفعلي
انفجري
لا تقفي مثل المسمار
لا يمكن أن أبقى أبداً
كالقشة تحت الأمطار
مرهقة أنتِ.. وخائفة
وطويل جداً.. مشواري
غوصي في البحر.. أو ابتعدي
لا بحر من غير دوار
الحب.. مواجهه كبرى
إبحار ضد التيار
صلب بين الأقمار
يقتلني جبنك.. يا امرأة
تتسلى من خلف ستار
إني لا أؤمن في حب
لا يحمل نزق الثوار
لا يكسر كل الأسوار
لا يضرب مثل الإعصار
آه لو حبك يبلعني
يقلعني.. مثل الإعصار
إني خيرتك فاختاري
ما بين الموت على صدري
أو فوق دفاتر أشعاري
لا توجد منطقة وسطى
ما بين الجنة والنار
*المقطع الأول:
يبدأ الشاعر القصيدة بخطاب مباشر لحبيبته فيقول لها: "إني خيرتك.. فاختاري"، والخطاب يدل على حالة من التوتر لدى الشاعر سنتعرف على سببها في الأبيات القادمة..
"ما بين الموت على صدري أو فوق دفاتر أشعاري"
هنا يخير الشاعر حبيبته بين أمرين؛ إما أن تموت على صدره أو فوق دفاتر أشعاره، وهذان الخياران يحتويان على مدلولات مكثفة وكثيرة، فهو يخيرها بين موتين مختلفين في الأمكنة، فواحد على الصدر والآخر على دفاتر الأشعار، ولكن هل هذان الموتان هما موت واحد أم أنهما يختلفان في المدلول؟ لنتابع ونرى.
"اختاري الحب أو اللاحب"
هنا حدد الشاعر دلالات الخيارين، وحصرهما في مدلولين مباشرين فأصبح لدينا:
الخيار الأول هو (الموت على الصدر=الحب)...............(1)
الخيار الثاني هو (الموت فوق دفاتر الأشعار=اللاحب)..............(2)
ونلاحظ هنا أن الموتان يختلفان في المدلول، ونلاحظ أن الشاعر وُفِّق في الجملة (1) لأن الموت على الصدر من دلالاته وإيحاءاته نستطيع أن نستشفَّ منه معنى الحب، ولكنه لم يوفق في (2) لأن الموت على دفتر الأشعار لا توحي بحالة اللاحب، نعم لو قال بين دفاتر أشعاري ممكن ولكن هكذا لا أظن..
"فجبنٌ ألا تختاري"
وصفها بالجبن إن لم تختار أحد الموتين، وسنعود إلى هذه الصفة فيما بعد.
"لا توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار"
هنا تتضح لنا حالة التوتر لدى الشاعر، فهو يرفض المنطقة الوسطى بين الخيارين، فإما هذا وإما ذاك. ونستشف من الجملة أن الحبيبة جالسة في منتصف الخيارين فلا هي في حالة الحب ولا اللاحب، ولكن هل الحبيبة متعمدة في البقاء في هذه المنطقة أم أنها متحيرة ومترددة؟ هذا ما سنعرفه في المقطع القادم، ولكن قبل الانتقال نُعلِّق على نقطة مهمة، وهي أن الشاعر قام بإعطاء أبعاد أخرى للخيارين الذين أعطاهما لحبيبته فأصبح لدينا:
الخيار الأول هو (الموت على الصدر=الحب=الجنة)...........(3)
الخيار الثاني هو (الموت فوق دفاتر الأشعار=اللاحب=النار)........(4)
وهنا تتضح لنا دلالتا الموتين الذين يخير الشاعر حبيبته بينهما، فأحدهما نعيم تام والآخر عذاب تام، وهذا يدل على أن الحب الذي يريده الشاعر هو أسمى درجات الاندماج والعشق لأن الحب الذي لا يكون بهذه الكيفية تشوبه بعض المنغصات من إقبال وإدبار وتردد، وهذه هي المنطقة الوسطى التي يرفضها الشاعر، أما الخيار الثاني وهو العذاب التام والانفصال الكلي فيفضله الشاعر على عذاب المنطقة الوسطى ولكن لماذا؟ أليست المنطقة الوسطى أهون من النار؟؟ سنكتشف معاً مغزى هذا الخيار في المقطع الأخير. وقبل أن نترك هذه المقطع أود أن أقول أن الشاعر لو كان اقتصر في خيارته على الشكل الآتي لكان أفضل للقصيدة وهما:
الخيار الأول هو (الموت على الصدر=الجنة).......(5)
الخيار الثاني هو (الموت على دفاتر الأشعار=النار)..........(6)
فنلاحظ في (5) و(6) أنهما تحتويان على دلالات غنية ومتعددة ومكثفة وخصبة، ولكن عندما حدد الشاعر هذه الدلالات في الجملتين (3) و(4) فقد أفسد على نفسه المقطع وأفقده جزءاً كبيراً من جماله.
*المقطع الثاني:
"ارمي أوراقكِ كاملة وسأرضى عن أي قرار"
هنا خفَّت لغة الخطاب فالشاعر يرجو حبيبته بعد أن كان يخاطبها بلغة شبه آمرة، الآن يقول لها أرجوكِ أن تبوحي بما عندكِ وتقرري وأنا سأرضى بأي قرار تقررينه، والجملة الأخيرة (وسأرضى عن أي قرار)، وإن كانت توحي بأنه سيرضى بأي قرارٍ مهما كان، ولكننا من النص نستشف أنه لن يرضى إلا بأحد الخيارين الذين خيرها بهما؛ فإما الجنة وإما النار، أي أن تقدير الجملة هو (عن أي قرار من القرارين السابقين)، وقد عبَّر عن رغبته في معرفة قرار حبيبته بوضوح تام دون إخفاء أي شيء بقوله (ارمي أوراقك كاملة)، وهذا مجاز لطيف وهو مستخدم في حياتنا اليومية فمثلاً عندما نقول لفلان انكشفت أوراقك يعني أننا أصبحنا نعلم ما يدور في رأسه أو ما يخطط له.
"انفعلي.. انفجري.. لا تفعلي مثل المسمار"
هنا يرجو الشاعر أيضاً حبيبته بالتحرك واتخاذ القرار، ويشبهها إذا لم تتحرك بالمسمار، ولا نرى من خلال القصيدة ما يوحي بالرابط بين المسمار والحبيبة الجبانة كما قال سابقاً (فجبن ألا تختاري)، بل ترك الرابط معلقاً على فهم القارئ، وفي رأيي أن هذا التشبيه غير موفق إطلاقاً، واعتقد أن الشاعر اختاره فقط من أجل موسيقى القصيدة، ففضَّلَ الموسيقى على المعنى، وهذا الخطأ كثيراً ما يقع فيه الشعراء العموديين أو الأحرار.
"لا يمكن أن أبقى أبداً.. كالقشة تحت الأمطار"
هنا انتقل الشاعر من الخطاب المباشر لحبيبته إلى التكلم عن نفسه، فيقول أنه لا يمكن أن يتحمل هذه الحالة، وهذه الجملة تعتبر شاذة خطابياً عن الجمل التي قبلها والتي بعدها، ولكنها تكشف لنا موقف الشاعر المتردد أيضاً مثل حبيبته، فهو أيضاً لا يقرر بل ينتظرها هي التي تقرر وسيرضى بقرارها مهما كان، كما قال سابقاً (وسأرضى عن أي قرار)، وبهذا يكون موقفه أضعف من حبيبته فينطبق عليه الصفات التي أطلقها عليها، فإن هي لم تقرر فهو إذن جبان وأيضاً هو مثل المسمار!!
وأيضاً بيَّن في هذه الجملة مدى احتياجه لحبيبته وضعفه أمامها، ومن هنا يتضح أن المقطع الأول ما كان إلا إيهاماً لقوته أمامها، وهنا يتضح لنا لما عبر في المقطع الأول عن حالة اللاحب بالنار لأنه لا يستطيع التخلي عنها، فإذا اختارت هي الانفصال فهذا سيعني العذاب التام بالنسبة له، أما بالنسبة لتشبيهه حالة التردد التي يعيشها بالقشة التي تحت المطر فهنا أيضاً لا يوجد رابط في وجهة نظري فقد وقع في نفس الخطأ السابق.
"مرهقة أنتِ.. وخائفة.. وطويل جداً.. مشواري"
هنا يصفها بالمرهقة والخائفة، فهي خائفة من القرار وعواقبه، ولكن لماذا هي مرهقة فالنص لا يشير إلى ذلك؟ هل بسبب حالة التردد التي هي فيها أم لسبب آخر لا أحد يعلمه؟ وأظن أن صفة المرهقة لا تخدم النص كثيراً.
وفي الجملة إشارة إلى أن حبهما يحتاج إلى تضحية، وهذه التضحية هي سبب تردد الحبيبة، أي أن الحبيبة ليست متعمدة في الوقوف بالمنطقة الوسطى بل هي مترددة وخائفة، ولكن ما نوع هذه التضحية؟
لا يوجد إشارة مباشرة في النص تجيبنا على هذا السؤال، ولكن في هذه الجملة والجمل القادمة إشارات غير مباشرة تحمل بعض الدلالات التي سنحاول الاقتراب منها.
"غوصي في البحر.. أو ابتعدي.. لا بحر من غير دوار"
وهنا يعود الخطاب إلى حالة التخيير التي تخلى عنها في منتصف النص، فيخيرها ما بين الغوص في البحر أو الابتعاد عن البحر، والبحر هنا رمز للحب الذي تكلم عنه الشاعر في أول القصيدة، وأيضاً نجد أن الشاعر يقول لها إذا أردتِ الغوص في البحر -والبحر هنا رمز للحب- فعليكِ أن تتحملي دوار البحر، وهو رمز للتضحية التي أشرنا إليها.
ونجد هنا أن الشاعر ربط بين الغوص في البحر والدوار، وهو لم يُوفَّق هنا أيضاً، فالغوص لا يسبب أبداً دواراً للرأس بل الإبحار فيه هو الذي يسبب ذلك.
*المقطع الثالث:
"الحب.. مواجهة كبرى.. إبحار ضد التيار.. صلب بين الأقمار"
هنا يعرِّف الشاعر الحب بإشارته إلى تبعاته، فالذي يحب يجب أن يواجه ويسبح ضد التيار ويصلب بين الأقمار، فيقول لها إذا كنتِ مستعدة لأن تحبيني فستتعرضين للتيار وعليكِ مواجهته والسباحة ضده، وعليكِ أيضاً أن تصبري للبلاء الذي سيصيبك (صلب بين الأقمار)، فالحب إذن مواجهة وصبر.
"يقتلني جبنكِ.. يا امرأة.. تتسلى من خلف ستار"
يعود الشاعر ويصف تردد حبيبته بالجبن، ولكن لم يوفق الشاعر في وصف حالة التردد بقوله (تتسلى من خلف ستار).
"إني لا أؤمن في حبٍ لا يحمل نزق الثوار.. لا يكسر كل الأسوار.. لا يضرب مثل الإعصار"
هنا يؤكد الشاعر معنا الحب الذي أشار إليه سابقاً، وهو المواجهة وتحدي الصعوبات.
"آه لو حبكِ يبلعني"
هنا بعد أن وضَّح الشاعر لحبيبته تبعات اختيارها لحالة الحب يتمنى لها أن تختار هذا الخيار وهو خيار الحب. ونلاحظ هنا أن الشاعر وصف حالة الحب ووصف المنطقة الوسطى بين الحب واللاحب في ثنايا النص ولكنه نسي أن يصف حالة اللاحب ونتائجها، ربما لأنه لا يريد أو لا يستطيع أن يفكر في هذا الخيار مطلقاً، ولهذا أهمله، وهذه إشارة إلى أنه لا يستطيع العيش إذا اتخذت حبيبته قرار اللاحب.
"يقلعني.. مثل الإعصار"
وكما قلنا سابقاً، فالشاعر ينتظر قرار حبيبته ويتمنى لها أن تقرر القرار الذي يوصلهما للنعيم التام.
"إني خيرتك فاختاري.. ما بين الموت على صدري أو فوق دفاتر أشعاري.. لا توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار"
هنا يعود الشاعر إلى منطق التخيير بعد أن وضح لها أبعاد كل قرار، ويختم الشاعر النص وهو ما زال ينتظر قرار حبيبته، وليس هناك إشارة إلى أنه سيفعل شيئاً إن لم تختار حبيبته وظلت جبانة.
*وفي الختام:
بشكل عام القصيدة تتميز بإيقاع موسيقي عالي، وهي ميزة نزار الأولى، ولكن نلحظ عدم الدقة في كثير من المواضع.
أما بالنسبة لمعاني القصيدة وجودتها فهذا -كما قلت- لا رأي لي فيه هنا لأن الجمال شيء نسبي، فما أراه أنا جميل لا يراه غيري كذلك، ولهذا فأنا أحتفظ برأيي لنفسي وأدع للقارئ حكمه وذوقه، وكل شيء في هذا العالم به نسبة من الجمال، وكل إنسان تكون ذائقته الجمالية على حسب أيدلوجيته الفكرية وعمقه المعرفي، فالعلاقة بين الجمال وتذوق الجمال تعتمد بشكل عام على ثقافة الإنسان بهذا الجمال.. والسلام.
تحياتي
الإدارة